مدخل تمهيدي:
حين تسمو النفوس وتكبر الآمال وتصبح الحياة عامرة بالتقوى وفضائل الأعمال، تتطلع النفس البشرية إلى معرفة الفضائل والمكارم، فتصبح العبادة محبوبة إلى النفس وتصبح الطاعة سجية من سجياها، فرسولنا الكريم في هذا الحديث النبوي الشريف الذي بين أيدينا يوضح لنا سبل الخير، ويرشدنا إلى مدارج العز في وصايا ثمينة غالية.
لنص الحديث:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يَأْخُذُ عَنِّي هَؤُلاَءِ الكَلِمَاتِ فَيَعْمَلُ بِهِنَّ أَوْ يُعَلِّمُ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ؟»، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقُلْتُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ! فَأَخَذَ بِيَدِي فَعَدَّ خَمْسًا، وَقَالَ: «اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا، وَلاَ تُكْثِرِ الضَّحِكَ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ القَلْبَ».
[الترمذي، أبواب الزهد، باب من اتقى المحارم فهو أعبد الناس]
دراسة الحديث وقراءته:
I – توثيق الحديث والتعريف به:
1 – التعريف بالترمذي:
الترمذي: هو الإمام أبو عيسى محمد بن عيسى بن سَورة الترمذي المولود سنة 209هـ والمتوفى سنة 279هـ، كان الترمذي من خواص تلامذة البخاري، شهد له العلماء بالعلم والحفظ والمعرفة، وبالديانة والورع، حتى إنه لغلبة الخشية عليه كف بصره آخر عمره من كثرة بكائه من خشية الله تعالى.
II – فهم الحديث:
1 – مدلولات الألفاظ والعبارات:
- من يأخذ عني هؤلاء الكلمات فيعمل بهن: الوصايا، فالرسول ﷺ يسأل من يأخذ من القوم وصاياه ويطبقها في دنياه
- المحارم: كل ما حرم الله.
- وارض بما قسمه الله لك تكن أغنى الناس: اقنع بنصيبك من الدنيا، والمقصود بالغنى هنا غنى النفس وعدم الإلحاح في الطلب.
- أحسن إلى جارك تكن مؤمنا: أي عليك أن تعامل جارك معاملة حسنة.
- وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما: أي أحب الخير للناس كما تحبه لنفسك.
- ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب: أي أن لا يجعل الضحك خلقك في كل أوقاتك فتنشغل عن واجباتك الدينية والدنيوية، لأن هذا الخلق يذهب إحساس قلبك ونورك.
2 – الفكرة العامة للنص:
- يوجه رسول الله ﷺ جملة من الوصايا لأمته عامة للعمل بها لنيل رضا الله والفوز بالجنة.
3 – الأفكار الأساسية للنص:
- بيان معنى العبادة فهي ليست مظاهر وهمية ولا أشكال اجتماعية بل العبادة هي الجمال والجلال والاستقامة في الشريعة، فإذا اجتنب العبد المحارم وابتعد عن الهوى فذاك التقي الصالح والعابد الزاهد الذي يحبه الإسلام.
- بيان حقيقة الغنى فليس بكثرة المال ولا بالعقار ولا بالثروات وتكديسها، بل الرضى بالرزق المقسوم راحة النفس وطمأنينة القلب، والثروة هي كل نعم الله علينا كالإيمان والصحة …
- دعوة إلى البر والإحسان إلى أقرب الناس له، وأولاهم بحسن المعاملة هو الجار.
- دعوة الإسلام إلى حب الخير لجميع الأنام، فليس الدين إلا رحمة وعطفا، فلا يتحقق بالإسلام إلا من أحب الخير لجميع الناس.
- دعوة إلى الخلق الرصين باجتناب حياة الهزل، وتحذير من الإكثار من الضحك، فإن ذلك يتنافى مع وقار المسلم، فليست الحياة لهوا وعبثا، وليست هزلا وصخبا، بل هي في نظر العاقل حياة جد وكفاح، وعمل ونضال.
III – المعنى الإجمالي للحديث:
وصى الرسول ﷺ بخمس وصايا شملت العقيدة والعبادة والمعاملة والأخلاق لما لها من نفع بالغ الأهمية بالنسبة للإنسان في دنياه وآخرته، فهي توثق الصلة بينه وبين عامة الناس، وتجعله يحتل منزلة عالية في الدنيا والآخرة، وذلك ب:
- الابتعاد عن كل ما حرمه الشرع ونهى عنه.
- الرضا بكل ما قسمه الله له من الأرزاق.
- الإحسان إلى الجار، حيث حرم المسيء إليه من الدخول إلى الجنة، ولكثرة ما وصى به جبريل الرسول ﷺ ظن أن الله سيورثه.
- محبة المنفعة للناس كما يحبها لنفسه.
- عدم الإكثار من الضحك لأنه يجعله يغفل عن ذكر الله، وعن التفكر ويقظة الضمير، ويضعف في موضع الجد.
فالمسلم يجب أن يكون تقيا قويا متضامنا يحرص على نصح الآخر، تهمه منفعة أخيه المسلم ومصلحته كما تهمه منفعة ومصلحة نفسه.
IV – أساليب وقيم النص:
1 – أساليب النص:
هذا الحديث النبوي الشريف غني بالأفكار والمعاني السامية، وهو يتضمن مجموعة من الأساليب، منها:
- النهي: لا تكثر الضحك.
- أسماء التفضيل: أعبد، أغنى.
- الشرط: اتق المحارم تكن أعبد الناس …
- النواسخ الفعلية والحرفية: تكن (كان)، إن.
- النداء: يا رسول الله.
- الاستفهام: من يأخد …؟
- التوكيد: إن كثرة الضحك.
2 – قيم النص:
- قيم دينية: ترك المحرمات، الرضا بالنصيب.
- قيم اجتماعية: الإحسان إلى الجار، حب الناس.
- قيم خلقية: عدم الإكثار من الضحك.
استنتاج:
ضرورة العمل بوصايا الرسول للفوز بخير الدارين.
بالتوفيق